في
العاشر من شباط/فبراير عام 1993، ألقى
يوسف صايغ، بدعوة من النادي العربي في
بريطانيا، محاضرة بعنوان «الأبعاد غير
المنظورة للتطور التنموي الفلسطيني».
وقد شرفني رئيس النادي حينها بطلب تقديم
يوسف صايغ. وهكذا فعلت في تقديم طويل عنه
بينت فيه دوره وتأثيره في الفكر الاقتصادي
العربي. وعندما انتهيت من تقديمه، وكان
يوسف متأثراً كثيراً بذلك التقديم، أوصى
وصيّة أشهَدَ الحاضرين عليها، وهي أن أقدم
التقديم نفسه تأبيناً له عند وفاته، وهو
ما حاولت أن أفعله بعد وفاته وفاءً لوصيته
ولذكراه.
ويكفي أن أقول إن يوسف صايغ أعدّ ونشر 16
كتاباً باللغة العربية في مواضيع شتَّى
تتعلق بجوانب مختلفة عن الاقتصادات
العربية، كما نشر 9 كتب باللغة الإنكليزية
حول الموضوعات ذاتها. وإضافة إلى كتبه
بالعربية والإنكليزية، نشر 34 مقالة
وبحثاً اقتصادياً في دوريات عربية، و12
مقالة وبحثاً في دوريات أجنبية، هذا عدا
ما نشره حول الجوانب غير الاقتصادية عن
القضية الفلسطينية وهي كثيرة أيضاً.
كانت أول معرفتي بيوسف صايغ كقارئ، وفي
بغداد، من خلال قراءتي كتاب له بعنوان
الخبز مع الكرامة: المحتوى الاقتصادي
الاجتماعي للمفهوم القومي العربي الذي
نشرته دار الطليعة عام 1961. وكان أوّل
الاقتصاديين العرب ـ في ما أعلم ـ الذي
شدّد على البعد الاجتماعي للتنمية
العربية، ويسعدني أن أقول إنه كان له
تأثير فكري كبير عليّ، وإنه إضافة إلى
زيارة لأهوار العراق في صيف عام 1957، فقد
ترك بصماته الفكرية في توجهي الاجتماعي،
وكان لذلك تأثيره الواضح في مسيرتي
العملية في العراق خلال الستينيات.
****
وكانت المساهمة المتميزة الثانية له في
عمله الموسوعي اقتصادات العالم العربي:
التنمية منذ عام 1945، وصنوه محددات
التنمية الاقتصادية العربية والتي نشرت
عام 1978 بالإنكليزية، كما نشرت تباعاً في
ثلاثة مجلدات بالعربية خلال الأعوام 1982
و1984 و1985. فقد قام بتقييم تجارب
التنمية العربية في البلاد العربية
المختلفة، كل بلد على حدة، منذ عام 1945
حتى النصف الثاني من السبعينيات، وكان
الجزء الخاص عن «محددات التنمية
الاقتصادية العربية» فتحاً جديداً في
أدبيات التنمية عربياً.
لقد كان التأكيد في أدبيات التنمية خلال
الخمسينيات وحتى أوائل الستينيات على
الجانب الخاص بتمويل التنمية. ثم تبين في
أوائل الستينيات أنه رغم توفر التمويل،
فقد ظلت التنمية ـ في حالات كثيرة ـ
متعثرة. ولذلك، اتجه البحث إلى محاولة
التعرف على «المحددات» الأخرى غير المالية
للتنمية. وكان من أوائل تلك المحاولات ما
قام به الاقتصادي السويدي غانر ميردال (Gunner
Myrdal)،
حيث قام مع فريق معه بدراسة التنمية
الآسيوية ومحاولة الوقوف على العوامل
المختلفة التي تؤثر في التنمية، وخاصة
العوامل غير الاقتصادية، وانتهى إلى أن
«التعليم والتربية» هما أهم عامل مؤثر في
التجربة التنموية الآسيوية. وقد نشر نتائج
المسح والدراسة التي أعدها عام 1968 في
ثلاثة مجلدات بالإنكليزية بعنوان:
Asian Drama: An Inquiry into the Poverty
of Nations
«الدراما الآسيوية: بحث في فقر الأمم»،
ومثلت دراسة ميردال توجهاً جديداً في
أدبيات التنمية. وما لبث يوسف صايغ أن
تلقف هذا التوجه وبحث في التنمية في
البلدان العربية المختلفة، ثم خصص جزءاً
خاصاً من دراسته عن العوامل غير
الاقتصادية التي تؤثر في التنمية العربية
بعنوان «محددات التنمية الاقتصادية
العربية؛ وهو استعمل «مقررات» بمعنى
«محددات» (Determinants)
في كتابه بالإنكليزية؛ وكذلك «مستقبل
التنمية العربية». وعالج في هذا الجزء
العوامل السياسية والاجتماعية والمؤسسية
التي تؤثر بشكل فاعل في عملية التنمية
العربية.
لقد كانت محاولة يوسف الرائدة فاتحة
لأدبيات عربية لاحقة في هذا المجال، ولكنه
كان أول الرواد العرب فيها.
****
واستمر يوسف يتابع الجانب الاجتماعي
والسياسي للتنمية العربية، وأعطى موضوع
التنمية المستقلة والاعتماد على النفس
اهتماماً واسعاً في كتاباته وتوَّجها
بكتابه التنمية العصيّة: من التبعية إلى
الاعتماد على النفس في الوطن العربي الذي
صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام
1992.
****
وكان من مساهماته المتميزة الدور الفكري
الذي قام به في التحضير لمؤتمر القمة
العربي الحادي عشر الذي عقد في عمان
بالأردن عام 1980، وما أعده من خلال
الفريق الذي ترأسه من دراسات «لتطوير
العمل الاقتصادي العربي المشترك»، والتي
تم تبنيها في مؤتمر القمة في عمان، وانبثق
عنها «ميثاق العمل الاقتصادي القومي» و
«إستراتيجية العمل الاقتصادي العربي
المشترك»، و«الاتفاقية الموحدة لاستثمار
رؤوس الأموال العربية في الدول العربية»
و«عقد التنمية العربية المشتركة». وكان
ليوسف وفريقه الفضل الكبير في ما انبثق في
الجانب الاقتصادي عن مؤتمر القمة هذا.
****
أما فلسطين، فكانت في فكره وقلبه دائماً،
فإضافة إلى ما أعده ونشره عن الاقتصاد
الإسرائيلي وغير ذلك، قام بتكليف من منظمة
التحرير الفلسطينية بإعداد دراسة عن
«المقومات الاقتصادية لدولة فلسطينية
مستقلة»، وانتهى من إعدادها في
حزيران/يونيو 1990، والتي كان من المفروض
أن تكون الأساس لبناء اقتصادي فلسطيني
مستقل عن الكيان الصهيوني، إلا أن «اتفاق
أوسلو» قام بدمج الاقتصاد الفلسطيني في
الاقتصاد الصهيوني، وأطاح بالمشروع الذي
أعده يوسف صايغ حيث يقوم مشروعه على عكس
ما فعله اتفاق أوسلو، ولكنه يبقى موجوداً
إلى يوم يوجد فيه من يبعث فيه الحياة.
****
يبقى جانب آخر من آثار يوسف في الفكر
الاقتصادي العربي، فقد ساهم الثنائي يوسف
صايغ وبرهان الدجاني في تعريب عدد من
الكتب الاقتصادية الهامة من الإنكليزية
إلى العربية، وقاما بنحت المقابل العربي
لبعض المصطلحات الاقتصادية الإنكليزية،
وقد تركا بصماتهما من خلال تلك الترجمات
في التأليف الاقتصادي العربي اللاّحق.
****
كان يوسف صايغ عملاقاً بين الاقتصاديين
العرب، ولعلي لا أُغالي، وفي حدود اطلاعي،
إن قلت إنه كان من أهم الاقتصاديين العرب
إن لم يكن أهمهم فكراً وتوجُّهاً وغزارةً
في العطاء. وسيظل قدوة سيكون على الجيل
الثاني من الاقتصاديين العرب أن يقتديَ
بها، فعسى أن يكونَ على قدر هامته.
****
كل ما سبق كان عن يوسف صايغ الاقتصادي،
وهو ما التزمت أن أتكلم في حدوده. ولكن
يبقى يوسف القومي العربي، والفلسطيني الذي
لم ينسَ قضيته فكرياً وسياسياً، والعضو
المؤسس لمركز دراسات الوحدة العربية،
والصديق العزيز، وهذا له مجال آخر
 |