يوسف صايغ
.. شيخ الاقتصاديين العرب
بعد مضي ثمانية
وثمانين عاما من البذل والعطاء وُضع القلم
وجفت الأوراق وابتلّت العيون بالدموع وهي
تبحث عمن حمل على كاهله هموم وطنيه الصغير
والكبير، وهموم التنمية في العالم الثالث
... واستراح من لم يكن يهدأ في غير ضجيج،
وإن وصلت كلماته كل الأسماع .. وخفت صوته
الذي لم يكون ليعلو إلا بقول الحق المبني
على العلم والمليء باليقين .. واعتزل مسرح
الحياة من أكسب المحتوى الاقتصادي
الاجتماعي للمفهوم القومي العربي تعبيرا
ذا دلالة: "الخبز مع الكرامة". وجاء هذا
التعبير الذي حفره في ذاكرة الفكر القومي
العربي منذ ثمانية وأربعين عاما ليدل على
نتاج اجتماع القدرة العلمية والنزعة
القومية والحصانة القيمية في إنسان ظل
يحلم لوطنه بالرفعة ولبلده بأن ينعم
بالحقوق التي استلبتها عصابات لا خلاق لها
ولا كرامة، فصاغ منذ أربعين عاما
إستراتيجية لتحرير فلسطين. وظل مقيما في
بيروت يتطلع من سفوح جبالها الجميلة إلى
أرض لا تقل جمالا ولا بهاء لشعب كل ذنبه
في الحياة أنه يطالب بحقوقه المشروعة.
بدأ
حياته في إدارة الأعمال، وسرعان ما شق
طريقه إلى علم الاقتصاد ليصبح بعد سنوات
قليلة شيخا للاقتصاديين العرب دون منازع.
واستغرق في دراسة خبرات العرب في التنمية،
فإذا به يقدم من خلال الصندوق الكويتي
للتنمية دراسة جامعة مانعة للتنمية في دول
الوطن العربي، لا تزال مجلداتها الثلاثة
حتى يومنا هذا مرجعا للباحثين. عمل
كمستشار لمنظمة الأقطار العربية المصدرة
للبترول (أوابك) فأثرى أدبيات الاقتصاد
العربي بمؤلفاته عن السياسات النفطية
العربية خلال السبعينات ودور النفط في
التنمية العربية. وكان هذا قليلا من كثير
من دراساته التي أفضى إليها تطلعه وتعمقه
في قضايا التنمية، وموقع النفط منها، فكان
أول من نال في 2002 جائزة عبد الله
الطريقي التي رصدت لمن له إسهام في تعزيز
دعوة صاحبها بأن يكون "نفط العرب للعرب".
وتطلع إلى آفاق التنمية فوجد أنها تتسرب
من بين أيدي العرب، وهو التعبير الذي ترجم
من الإنجليزية elusive إلى "التنمية
العصية"، فعاد مرة أخرى يؤكد ما اكتشفه من
قبل، من أنه لا تنمية بغير اعتماد جماعي
على النفس.
وإذا
كان من أكثر الاقتصاديين العرب تحمسا
لشومبيتر ولتشديده على دور الريادة
entrepreneurship في التنمية، فإن التعمق
في الخبرة العربية جعله يتحدث عن مقومات
عربية للاشتراكية. وهكذا مضى يبني عقيدة
فكرية على أساس من البحث العلمي المدقق،
دون أن يدخل في متاهات الجدل الأيديولوجي
المتعصب. ولذلك لم يكن عجيبا عندما ظهرت
"الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية" كأول
تجمع مستقل للاقتصاديين العرب ساهم مع
عمالقة آخرين من أمثال إبراهيم سعد الدين
وإسماعيل صبري وخير الدين حسيب في
إنشائها، أن تختاره لرئاستها، فسعدنا
جميعا بتقبله طائعا وباذلا الجهد كل
الجهد، ومتحملا مشاق السفر للسهر على
شؤونها. ولم يكن يبخل على مجلتها ببعض من
علمه، بل وبمراجعة أصول ما يكتب في دقة
نادرة، إذ لم يكن يتحمل أن يودي الخطأ
الصغير بالمعنى الكبير.
وحينما
اختيرت في منتصف السبعينات لجنة العشرين
لتدرس أول إستراتيجية للعمل الاقتصادي
العربي المشترك في إطار جامعة الدول
العربية، كان يوسف في المقدمة. وظل يعمل
طيلة النصف الثاني من السبعينات بلا كلل
ولا ملل. وعندما لقيت الصيغة الأولى
للإستراتيجية نقدا بنّاءً من جانب إسماعيل
صبري عبدالله (رحمه الله)، هبّ يوسف ومعه
جورج قرم ومحمود عبد الفضيل ليعيد إلى
الإستراتيجية رونقها، ويحاول في الحبانية
(العراق) حمايتها من المزايدات، ويتولى
تحت قصف المدافع في بيروت الإشراف على
إعداد الوثائق التي رافقتها بعد ذلك إلى
المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة في
تونس ثم قمة عمان الاقتصادية، نوفمبر
1980، والتي تناولت مختلف أوجه العلاقات
الاقتصادية العربية، وأعدها اقتصاديون
مرموقون: إسماعيل الزابري وفؤاد مرسي
ومحمد لبيب شقير وآخرون كان هو المسئول عن
التنسيق بينهم. واستطاع أن يقود السفينة
إلى بر الأمان، وأن يخرج إلى الوجود،
بالتعاون مع عبد الحسن زلزلة (الأمين
العام المساعد للجامعة العربية للشؤون
الاقتصادية) الإستراتيجية التي لم ترض
لها الأنظمة العربية بعد ذلك الحياة.
وحينما قمت بإعداد الخطة القومية الأولى
المنبثقة عن الإستراتيجية مستعينا بعدد من
خيرة الخبراء العرب، كانت له لمساته
الثاقبة التي لم تتمكن رغم تحسبها لردود
الأفعال أن تحل عقدة ما أطلق عليه في مقال
شهير له من قبل "ذريعة السيادة الوطنية"
التي رأى فيها مشجبا تعلق عليه كل مبررات
التنصل من تبعات العمل المشترك. ولذلك
فإنه عندما دعا الأمير الحسن المجموعة
التي تعد وثائق قمة عمان ليطرح عليها
رغبته في إقامة سند فكري عربي يدفع
الإرادة العربية نحو الوفاء بذلك العمل،
كان يوسف من أشد المتحمسين للفكرة التي
تولد عنها "منتدى الفكر العربي"، فكانت له
فيه إسهامات عديدة قيمة.
ورغم
أنه فضل اعتزال العمل الرسمي في منظمة
التحرير، فقد ظل دائما يعطي القضية
الفلسطينية خلاصة فكره. فهو تارة يكتب عن
إستراتيجية العمل لتحرير فلسطين، وأخرى
يشرف على وضع البرنامج العام لإنماء
الاقتصاد الوطني الفلسطيني، ولكنه دائما
يرنو إلى المستقبل متحدثا عن آفاق التنمية
العربية. وهو بين هذا وذاك لا تفارقه روحه
المرحة، فإذا به ينتحي بك جانبا ليحكي لك
إحدى طرائفه العديدة، ومع كونها فكاهة
فإنها لا تخو من عمق الفكرة ولا تقلل من
وقار العالم. ولعله كان يتزود بها في
مواجهة الهموم التي حملها مع كل من اشتغل
بقضايا التنمية والعمل العربي المشترك.
وبعد ... فقد قدحت الذاكرة أفتش عن مرة
أبدى فيها استخفافا أو إهانة لأحد،
فأعياني البحث. قط لم ينبس فمه بمذمة، بل
كان يبحث دائما عن فرصة يعطي فيها كل ذي
حق حقه. وجدته مرة يبدي شديد سعادته بأنني
رددت الأمر إلى نصابه عندما نسبت إلى
اقتصادي عملاق مثله هو شومبيتر أنه أول من
فرق بين النمو والتنمية. ولعلنا نجد بعض
العزاء أنه رأى ثمار ما قام به مركز
دراسات الوحدة من تكريمه في حياته، بأن
كلف مجموعة من رفاقه لكتابة مقالات في
تكريمه بعنوان "هموم اقتصادية عربية:
التنمية – التكامل – النفط – العولمة"
حررها الزميل طاهر كنعان، لتعبر عن
الاهتمامات التي كرس لها يوسف صايغ عمرا
حافلا بالعطاء.
واليوم ترد له
الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية بعضا
من عطاياه لها، فتقوم بواجب إحياء ذكراه
العطرة، وفاء منها لذكراه، وتقديرا لجهوده
العديدة في سبيلها. وأشكر لها أن أتاحت لي
الفرصة لأن أشاركها في التعبير عن بعض ما
أكنه نحو واحد ممن ظللت دائما أسعد برفقته
وصداقته.
جزاه الله عن أمته
نعم الجزاء، وعوضها فيه خيرا، وألهم آله
وصحبه الصبر والسلوان.
 |