الزميلات
والزملاء:
الحضور الكريم:
أسعد الله أوقاتكم،
أصبح من المعتاد،
أن تقوم الجمعية العربية للبحوث
الاقتصادية، في مؤتمراتها العلمية، بتكريم
واحد، أو أكثر، من الرموز الاقتصادية
العربية العاملة في مجال الفكر والبحث
الاقتصادي في أفقه العربي القومي. ويأتي
تكريمنا اليوم لواحد من أبرز المفكرين
الاقتصاديين العرب. استكمالاً لهذا النهج
الذي اختطته الجمعية، عرفاناً واعترافاً
ووفاءً لما قدمه هؤلاء المفكرون والباحثون
الاقتصاديون من عطاء فكري ينير لنا
ولأجيالنا الواعدة، طريق البحث العلمي
والفكر الملتزم بقضايا الأمة.
مفكرنا الذي نعتز
بتكريمه اليوم، هو المرحوم الدكتور يوسف
صايغ.
وكان سيكون هذا
التكريم ذا واقع أكبر لو أنه تم والدكتور
صايغ بيننا الآن، لكن هذه هي الأقدار،
فيأتي هذا التكريم إحياءً لذكراه، حيث
تأبى كتبه أن تنزاح عن رفوف مكتباتنا، كما
تأبى أفكاره وعطاءاته أن تُمسح من
ذاكرتنا. ولهذا التكريم نكهة خاصة، فهو
يأتي من خلال حفل عشاء يقيمه مركز دراسات
الوحدة العربية لمناسبة انعقاد مؤتمرنا
العلمي العاشر، فقد كان الدكتور يوسف
عضواً في مجلس أمناء المركز، كما إن هذا
التكريم يأتي من جمعية أحبها وترأس مجلس
إدارتها في سنواتها الأولى.
المرحوم الدكتور
يوسف صايغ، ورث عن أبيه القس عبد الله
صايغ، الذي كان ناشطاً في تقريب الرعية من
تعاليم الكنيسة في فلسطين وسورية ولبنان،
ورث عنه الوداعة والقناعة والإيمان
والمثابرة، واكتسب من خلال بحثه وعلمه
وتجواله، المعرفة والالتزام بقضيته
الوطنية، فلسطين، وبقضايا أمته العربية،
فاستطاع المزج ما بين المعرفة والالتزام
الوطني والقومي، فسخر علمه لخدمة القضايا
الاقتصادية والاجتماعية والقومية، وكان
باكورة إنتاجه أقرب كتبه إلى نفسه بعنوان:
الخبز مع الكرامة: المحتوى الاقتصادي-
الاجتماعي للمفهوم القومي العربي، الذي
صدر عام 1961، وحاز على جائزة جمعية
أصدقاء الكتاب. والخبز مع الكرامة، هذه
العبارة المليئة بالرموز، التي اختارها د.
خير الدين حسيب لتعلق في مكتبه، تلخص لنا
فكر يوسف صايغ، ومزجه المبكر لقضايا
الاقتصاد والمجتمع والالتزام القومي مع
التشبث بالكرامة والعزة وتلك النظرة التي
طالما رأيناها تبرق في عينيه، وتشع فكراً
ومهارة ومواظبة يومية، تكشف عن شفافيته
التي حافظ عليها في تصرفاته ونهجه الوطني
وصراحته المهذبة في التعبير.
وقد أتاحت الدراسة
الجامعية في الولايات المتحدة ليوسف صايغ
فرصة ثمينة للاطلاع على منهجية معمقة
لدراسة علم الاقتصاد، فربط ما بين
الافتراضات الاقتصادية والواقع السياسي
والاجتماعي، كما أتاح له الاطلاع على
تحليل (شومبيتر) لأسباب النمو والتمييز
بين النمو والتنمية في أوائل الستينيات،
التوصل إلى تحليل أعمق للواقع العربي،
خاصة تسليطه الضوء على تأثير حرية الإنسان
في المبادرة والتطوير الديمقراطي للنظام
السياسي وأثر ذلك في تحقيق التنمية، التي
نظر إليها من خلال رؤية شمولية، تضع
النشاط الاقتصادي ضمن الأُطر المكملة
والمتفاعلة مع هذا النشاط، خاصة الأنظمة
التعليمية التي تُسهل عملية الخروج من
حالة التخلف التي تعيشها المجتمعات
العربية.
لقد استطاع يوسف
صايغ المزج بين نشاطاته المتعددة في
المجال الفكري والأكاديمي والسياسي، فلم
يبخل يوماً بعطائه في هذه المجالات، ولم
يوفر جهداً في عطائه البحثي في قضايا
التنمية، كما لم يبتعد عن العمل القومي
سواء على المستوى الفلسطيني أم على
المستوى القومي. وقد تجلى نضاله الوطني
الفلسطيني في سعيه إلى ترسيخ منطلقات
الوطن الفلسطيني من خلال عضويته في المجلس
الفلسطيني منذ تأسيسه عام 1964، ثم دوره
في تأسيس مركز التخطيط الفلسطيني في منظمة
التحرير الفلسطينية عام 1968، ثم في
عضويته للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
حتى عام 1974. إلى أن أسندت إليه مسؤولية
الإشراف على إعداد دراسة مستفيضة حول
"البرنامج العام لإنماء الاقتصاد الوطني
الفلسطيني"، فأنجز مع معاونيه برنامجاً
يتسم بالواقعية، وبالإحاطة بمستلزمات
تحقيق التنمية في فلسطين مع ضمان مستويات
العيش الملائمة للشعب الفلسطيني، وقد
أنجزت هذه الدراسة عام 1990. هذا عدا ما
قدمه في إطار عمله القومي كمستشار اقتصادي
تنموي في الكويت وعدد من المؤسسات العربية
والدولية.
لست هنا في معرض
تعداد إنجازات وعطاءات يوسف صايغ، فإنكم
بلا شك على اطلاع على إنجازاته وعطاءاته
الفكرية والقومية من خلال كتبه العديدة في
اللغتين العربية والإنكليزية، ومن خلال
مواقفه في المؤتمرات والندوات، إنما أردت
التوقف عند بعض هذه الإنجازات والعطاءات،
لما فيها من عبر ودروس، إذ يصعب على المرء
تعداد أو الإلمام بعطائه الفكري والقومي
في مثل هذه العجالة. إننا في هذه الأمسية،
نسترجع بعض المفاصل في حياة هذا المفكر
العربي الكبير، ونضيف إلى ما سبق أن ناله
من تكريم، لفتة صغيرة من أعضاء الجمعية،
بعضنا رافقوه وزاملوه في حياته، وبعضنا
تتلمذ وتكون من عطائه الفكري، عسى أن نكون
قد أسهمنا في إيفائه بعض حقه، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
 |